وجوه من الانتفاضة- هيثم أضاء ساحة النّور بولّاعة سجائر وعينين مطفأتين
ى وقع أغنية “الحلم العربي”، أضاء الثوّار ساحة النّور بـ “فلاشات” هواتفهم المحمولة، المرفوعة عاليًا كالنّجوم في مجرّة. إلّا هيثم، أضاء العتمة بضوء ولّاعة سجائر، وبدمع انهمر من عينيه. نجوم هيثم مختلفة، سرعان ما رصدتها كاميرات النشطاء. خلف الشّاشات الافتراضيّة، نحدّق أكثر في عينيه، فنفهم أنّهما بالكاد تبصران. هيثم البيروتي (51 سنة)، فقد كلّ ما يملك، العائلة والمال والنّظر. لا يملك هيثم الكثير ولكنّه يوظّف هذا القليل في ساحة الثّورة. يأتي كلّ يوم، ينضمّ للمتظاهرين، يغنّي معهم، يهتف معهم، يُري الثّورة بولاّعة سجائره، ويرى الثّورة بـ30% من بصره المتبقّي في عينه اليمنى.
لا يملك هيثم هاتفًا ولا حسابًا في فيسبوك. بقي حالة إنسانيّة مكتومة الهويّة. حالة واحدة، من عشرات الحالات المعدومة الّتي ألفتها ساحة طرابلس. في مستديرة الانتفاضة تلك، تتزاحم المواقف الحسّاسة، وملاحم الكفاح والنضالات الشخصية والجماعيّة، تخوضها وجوه حزينة تريد أن تعطي الفرح لوجه طرابلس، فما انفكت تغني وترقص وتهتف “ثورة… ثورة”. هيثم وجه من هذه الوجوه. روّاد التّواصل الاجتماعيّ تناقلوا الفيديو، متعاطفين مع حزنه وعوزه. بعد أيّام، ينجح بيّاع للهواتف المحمولة من طرابلس بالوصول إليه، فأهداه هاتفًا ذكيًا، بعدما عرف أنّ هذا الرّجل الّذي لا يملك مأوى، يفترش الأرض تحت جسر الميناء.
“كلّن يعني كلّن… قلت نصّن شي؟”
إنّها السّاعة السّادسة، لم يزل المساء في أوّله. لكنّه مساءٌ موحش ومريب. إضاءة خجولة تنير دوّار الميناء بالقرب من الجسر. لا يتنقّل أحد في هذه البقعة، سوى بالسيّارات المسرعة في الاتّجاهين. لا صوت يخترق هدير الموتورات، ولا مؤشّر لحياة محتملة في هذا المكان. نقترب أكثر، فتلوح قبالتنا هامة طويلة لرجل، ينقّل خطوات متردّدة، بين الأمام والخلف، لاجتياز الاوتوستراد الى الناحية المقابلة، ولكن سرعة السّيّارات تغدره. بعد دقائق، تتمهّل سيّارة، فينجح في الوصول الى الضّفّة المقابلة. تتغيّر ملامحه المتلبّدة، حين تأكّدنا من اسمه ودعيناه للدّردشة، “أهلا يا بنتي”، يستجيب لنا مع ابتسامة صغيرة افتتح بها حديثه الطّويل عن مأساته الخاصّة الّتي كانت حتى اللحظة ونيسته الوحيدة تحت الجسر.
هذا العراء الّذي اتخذه هيثم مأوى له، هو في الحقيقة نقطة تتوسّط منزل أهله الميسورين في شارع نقابة الأطباء من جهة، ومقرّ عمل ابنه في المعرض من جهة أخرى. لكنّه التّخلّي الّذي عاناه من أبويه وثم أسرته المفكّكة، أوديا به الى قارعة الطريق والمجهول.
يقول هيثم: “أنا الابن البكر لأسرة ميسورة. نملك محلات للذهب في سوق الصّاغة (سوق الذّهب في طرابلس)، ولكن حُرمت إرث العائلة بعد موت أبي”. ويستفيض هيثم في الحديث عن شقاقات عائليّة، دفعت بالأمّ وأحد الاخوة الى تصرّفات يصفها بـ”الأنانيّة” و”الجشعة”، لحرمان هيثم وباقي إخوته من الإرث، وإقناع والده قبل موته ببيع منزل هيثم والمحلّ الّذي قدّمه له في سوق الذّهب. ويتابع سرده بإيراد السيناريو المدبّر الّذي انتزع منه عمله وبيته “بدون وجه حق”، قبل موت الأب وبإسناد قانونيّ لطبيب شرعي وكاتبة عدل.
بالنّتيجة، فقَد هيثم البيت أولًا، فتشرّد مع زوجته وابنيه، متنقلين هنا وهناك لشهور طويلة. لكنّ بيع المحل، مورد رزقه، جعل أحواله الاقتصادية تهبط الى الحضيض. بعد سنوات، وقع طلاق بينه وبين زوجته، فبقي وحيدًا. يستطرد “هي طليقتي ولكن عائلتها شهود على كلّ الظلم الذي أوقعه أهلي بي”.
يقطع الحديث مرور “فان” صغير يقلّ مجموعة شبّان هاتفين للرجل “ثورة ثورة”.. فيردّ هيثم عليهم “كلّن يعني كلّن.. مفكرين نصّن مثلا؟”، ويضحك عاليًا، قبل أن يستجمع تركيزه ويشرح أنّهم “رفاق السّاحة” الّذين سيلحق بهم بعد قليل.
يتلقّى هيثم سؤالنا عن مشاكل عينيه، كسكين تحرّك داخل جرح غائر. نحاول فهم المزيد، فيقول إنّه حاول طويلًا ليتخطّى هذه الحادثة، لكنّه لم يستطع. وأنّ البوح سيؤذيه “لقد فقدت النظر بسبب حادثة في الكويت عام 2005. استطاع الدكتور ألكسندر جلخ من مستشفى العين والأذن في النقاش من إنقاذ 30% من فعالية عيني اليمنى”. ولا سبيل متاح، بحسب هيثم، لاستعادة نظره، سوى زراعة عين من خلال وهب الأعضاء، وهي عملية باهظة الكلفة، فاستبعدها.
“صرت فقط أدعو الله ليرزقني. عابرو السّبيل يسألون عنّي من حين الى آخر”، يقول هيثم، مضيفًا أنّه حين يتوافر معه مبلغًا صغيرًا، يقصد بانسيونات رخيصة في التّلّ “لأستحمّ وأنظّف ثيابي”. وبالفعل، علاوة على النظافة الشخصية، تعابير ومصطلحات أجنبية تنزلق من لسان هيثم، بلكنة سليمة، توحي بأنّه تربّى على عزّ غابر.
حاول هيثم التّحايل على عوائقه الصحية، والمباشرة بالعمل في حراسة الأمن أو الـ valet parking، ولكن السّبل بقيت موصدة أمامه. هيثم الّذي تتعذّر عليه الرؤية ليلًا، ارتطم منذ ليلة بعمود الكهرباء المطفأة، فترك هذا الاصطدام ندبة على جبينه.
“أحلى زلمي” الى الاعتصام.. بسيارة دون مازوت
على السكة رجل أسمر كهل، يحاول بصعوبة دفع سيارة أجرة قديمة، لعلّها تمشي. يراه هيثم فيضحك مجددًا “هذا صاحبي، ينام أحياناً بجانبي تحت الجسر. يبدو أنّ سيّارته فرغت من المازوت”. يقترب منّا السّائق فيصف هيثم بـ “أحلى زلمي”، ويستعجله للانضمام اليه ليذهبا سويًا الى الاعتصام، بالرّغم من نفاد المازوت من سيّارته.
يريد هيثم أن ينسى قصّة فقدانه لبصره. ويتسامى على وجعه الخاص، مفضّلًا أن يتبنّى أوجاعًا عامّة في ساحة الثّورة. ففي سؤال عن مشاركته في الاعتصام، انصهرت دوافعه بدوافع آلاف المعتصمين “في ظلم كتير وفساد كتير بهالحياة”، ثم تنتقل نبرته من هدوء ينزّ مرارة، الى صوت يضجّ بالثّورة “النّاس لا تملك إيجار طريق ولا المال لتعليم أولادها. أنا علمت أنّه لا حظّ لديّ، ولكن أريد رؤية أحفادي قادرين على الحصول على الطّبابة والتّعليم وأن يعيشوا حياة كريمة”. ويستطرد متحدّثًا عن “العهد” الّذي شرّد الجيش في الثمانينيّات، ثم جاء مجدّدًا الى لبنان “ليشيع فيه الفوضى”.
كان هيثم يسأل عن كيفيّة تشغيل جهاز الـ2019 Hawawei الّذي يحمله معه في كيس الماركة الأحمر. بعدما ساعدناه في إضاءة جهازه، سألناه عن الدموع الّتي أضاءت عينيه قبل أيّام، فأجاب “أولادي”.
المصدر: “النهار”