عندما تكون أباً ولكن فقيراً
يغمر الصمت المكان، ولا يُسمع سوى صوت بكاء السيدة الفلسطينية، سوسن أبو عويضة، وهي تنظر إلى صور زوجها “حسين”، الموجودة في الهاتف المحمول الخاص بابنتها أسيل (11عاماً). دموع سوسن تنهال بغزارة، ويزداد بكاؤها وهي تستذكر زوجها الذي قتل في غزة منتصف مايو/أيار الجاري، قائلةً: “لقد استشهد وهو يسعى لتوفير رزق أبنائه”. وكان أبو عويضة يشارك في مسيرة العودة السلمية، على الحدود الشرقية لقطاع غزة مع إسرائيل، مثله في ذلك كمثل آلاف الفلسطينيين، لكن هدفه كان يختلف عنهم قليلاً. فهو كان يذهب إلى تلك المنطقة “الساخنة”، طلباً للرزق، ولتلبية احتياجات عائلته، من خلال بيعه البراد (أحد أنواع المثلجات)، للمتظاهرين هناك. اختار أبو عويضة تلك المنطقة الخطرة للبحث عن رزقه؛ لأن بيع المرطبات للمارة في المدينة، قليل جداً، لتردي أوضاع الفلسطينيين المعيشية بغزة، كما تقول زوجته لوكالة “الأناضول”. وأعلنت وزارة الصحة الفلسطينية في قطاع غزة، عن مقتل أبو عويضة (42 عاماً)، فجر السبت 26 مايو، متأثراً بجراحه التي أصيب بها.
أولاً فقد الإحساس بكل شيء ثم مات
وأصيب أبو عويضة برصاصة إسرائيلية في عموده الفقري، تسببت بتهتك كبير في الحبل الشوكي، والرئتين والكبد، وفقد على إثرها الإحساس والحركة من منطقة أعلى الصدر، وحتى أسفل القدمين. ومنذ بداية مسيرات “العودة”، كان ينطلق أبو عويضة الذي يعيل أربعة أبناء أصغرهم في السابعة من عمره، إلى الحدود الشرقية لقطاع غزة؛ لبيع بضاعته. وفي ساعات الصباح الباكر من كل يوم، يجهز عربته الصغيرة، ويتفقد منتجه الأصفر، وأكوابه البلاستيكية، ثم يخرج لعمله ويعود في الساعة العاشرة مساءً. وعرُف أبو عويضة، الذي عمل في بيع “البراد” منذ نحو 18 سنة، بين المشاركين في المسيرة بلقب “صاحب براد العودة”. وتقول زوجته: “كان يذهب لبيع البراد (المرطبات)، كان يسعى لرزقنا، بما إنه ما في حركة بيع بين الناس في الشوارع، بسبب الفقر والبطالة”. ويعاني قطاع غزة من أوضاع اقتصادية متردية للغاية بسبب الحصار الإسرائيلي المفروض على القطاع منذ أكثر من عشرة أعوام، الذي ترتفع فيه نسبة البطالة لأكثر من 60 %. ويتواجد العديد من الباعة المتجولين قرب الحدود الشرقية للقطاع، آملين في توفير فرصة عمل لأنفسهم.
كان حنوناً للغاية
وتابعت الزوجة: “كان يقول لي إن الحر يدفع العديد من المتظاهرين لشراء البراد، ويجب أن أذهب هناك لأجل أبنائي، والله يحمينا”. وتضيف باكية: “كان حنوناً للغاية، كان دائماً يحضر لأبنائه السكاكر ورقائق البطاطا، ويجعلني أوقظهم من النوم”. وتكمل: “كنت أقول له دعهم نائمين، فيقول، لا أنا أنتظر العودة للمنزل لكي أراهم، نريد أن نتعشى مع بعض وأراهم ثم يناموا”. وقبل خروجه في الأيام الأخيرة، كان يودعني، ويقول لي كل مرة أبناؤنا أمانة لديك، كأنه كان يشعر أنه سيموت، وفق أبو عويضة. لكن الزوجة لم تكن تتوقع أن تنال رصاصات “الموت” الإسرائيلية من زوجها، فهو “لم يرتكب أي ذنب سوى أنه كان يوفر لعائلته طعامهم اليومي”. وكان أبو عويضة المعيل الوحيد لأسرته، ويحصل على نحو 5 دولارات يومياً، ولا تعرف الأم كيف ستدبر شؤون أسرتها المالية بعد استشهاد زوجها. وعلى إثر تظاهرات العودة استشهد نحو 115 فلسطينياً وأصيب أكثر من 13 ألف آخرين. بدورها تقول شقيقته حليمة (60عاماً) باكيةً بحرقة: “كان حسين بمثابة ابني وصديقي وأخي، إنه مكافح في البحث عن رزق أبنائه، لماذا تقتله إسرائيل”. وتتابع لوكالة “الأناضول”:” يوم المجزرة قبل خروجه، قال لنا أشعر أنني سأعود برزق وفير اليوم، لأن أعداد الناس ستكون كبيرة، لكنه عاد جريحاً ثم شهيداً”. وأردفت: “إنه حنون جداً، رغم دخله المحدود إلا أنه لم يكن يبخل علينا بأي شيء، ويوفر لنا كل ما نحتاج بقدر استطاعته”.