على رغم دخوله ثقب الابرة لبنان لن يفقد الامل
كيفما تلفتنا لا نرى سوى سواد. وكيفما إتجهنا لا نصادف سوى المآسي. أبواب الحلول مقفلة. الأزمـــــات تتراكم وتزداد سوءًا. اليأس يملأ الساحات. الغد وما قد يحمله من مفاجـــــآت أصبح هاجسًا و”بعبعبًا”.
الهموم اليومية أصبحت بعدد شعر الرأس. تسأل من تصادفهم ينتظرون مثلك أمام محـــــطات الوقود، أذلاء ومهانين، عن الصحة في هذه الظروف الصعبة، فيجيبوا: “بعدنا طيبين”،
أو “بعدنا طيبين من قلّة المـــــوت”. في هذين الجوابين إختصار كافٍ لما يعانيه اللبناني في يومياته، بعدما جعلونا نعيش كل يوم بيومه، مردّدين “إكفنا شرّ ما يخبئه لنا الغد”.
ما يعيشه اللبنانيون في هذه الظروف البشعة قد يشبه كل شيء إلاّ العيش، كما يُفترض أن يكون مستوى هذا العيش.
ما يمرّ به كل لبناني من مرارات و”تشحشوط” و”بهدلة” و”شنططة” و”شحّار” و”تعتير” لم يسبق أن مرّ به شعب آخر. فما عندنا ليس موجودًا في أي بقعة من بقاع الأرض.
عندنا طبقة سياســـــية غير موجودة سوى بكتب التاريخ، حيث نقرأ عن نيرون، الذي أحـــــرق روما لكي يشبع غرائزه، ونسمع عن هولاكو، وعن قبائل التتر،
وعن أكلة لحـــــوم البشـــــر. وإن كُتب لمن سيأتي بعدنا العيش فسيقرأون عن طبقة سياســـــية دمرّت لبنان، الذي كان قبلة السياح الأجـــــانب والعـــــرب،
حيث تغنّى الشعراء ببيروت “جوهرة المتوسط”، بيروت مستشفى الشرق، بيروت جامعة كل العرب، بيروت التي لم تكن تنام، حيث كان يحلو السهر ويطيب العيش،
بيروت التي أصيبت بـ”صيبة عين”، وقد سكبوا “الأســـــيد” على وجهها الجميل، وشوهـــــوا جمالها وقضوا على شبابها وهي في عزّ ريعانها.
لقد جعلوا منّا شعبًا شحّادًا. نشحد الدواء، وهو مكدّس في مستودعات الطمع والجشع. نشحد “تنكة” البنزين، وهو محـــــتكر في خزانات العار. نشحد ساعة من الكهرباء، وقد صرفوا عليها من أموالنا ما إمتلأت به جيوبهم،
وقد هُرّبت إلى الخارج في ليلة ما فيها ضوء قمر. نشحد القليل من أموالنا التي جمعّناها لأخرتنا، وقد وضعوا أيديهم عليها وجابولنا آخرتنا قبل أن تحين ساعتنا.
نشحد حكومة قد لا تبصر النور، لأن ثمة من لا يريد لها أن تطّل برأسها من تحت الأرض، وهو لا يريد بالتالي أن يكون في لبنان حلّ، أو بداية حلّ لهذا الكمّ المخـــــيف من المشاكل. لا يريدون حكومة.
هذا بـ”العربي المشبرح”. لا يريدون سوى حكومة تشبههم، حكومة تلبّي طموحاتهم السياســـــية، حتى ولو على خراب،
حكومة تكون لهم فيها الغلبة، أو بمعنى آخر ثلثًا ضامنًا أو معطّلًا، وكأن البلاد تحتاج بعد كل ما أصـــــابها، إلى من يعطّلها.
مَن يتسنى له الإطلاع على بعض المناقشات حول التشكيلة الحكومية يكتشف عمق المأســـــاة التي نعيشها، ويكتشف كم هي الهوّة سحيقة،
تلك التي تفصل الشعب عن هذه الطبقة الســـــياسية، التي لا تزال تفتش عن مصالحها، غير آبهة بما يحّل بالناس من مصـــــائب وما ينزل عليهم من كـــــوارث.
وعلى رغم كل هذه المساحة السوداء، التي تحيط بنا من الجهات الأربع، لا يزال هناك بصيص أمل في إمكان إحداث ثقب أبيض في تلك الظلمة الكالحة.
لا نزال نؤمن بأن ثمة أشخاصًا، وهم غير قليلين، لا يزال لبنان يعني لهم الكثير، وهم يحاولون بكل الطرق، ويسعون ويصرّون، بكل ما أوتوا من قوة وعزم وإرادة، على إخراج اللبنانيين من أزماتهم المستفحلة،
لأنهم لا يزالون يؤمنون بالدور الذي يمكن أن يقوم به هذا البلد الصغير، والذي لا يستطيع غيره من البلدان القيام به.
ويبقى الأمل بهولاء، على أن يكون الترياق الآتي إلينا من حيث لا ندري قريبًا، على رغم أن بعض المتـــــشائمين يقولون إن لبنان دخل ثقب الإبرة، ومن الصعب جدًا العودة إلى حيث لا عودة.