‘مقهى التل العليا’ يختزل تاريخ اللبنانيين منذ القرن التاسع عشر

يأخذ مقهى قديم يقع على تلة في مدينة طرابلس اللبنانية رواده إلى الماضي الجميل تحت أشجار الليمون وعرائش العنب، حيث يشهد ذلك المكان الهادئ على حلقات النقاش السياسية والثقافية لكبار الشخصيات البارزة في البلاد منذ القرن التاسع عشر.

لم تتبدل ملامح “مقهى التل العليا” القائم وسط مدينة طرابلس اللبنانية منذ بنته الدولة العثمانية عام 1870 في القرن التاسع عشر.

ومازالت هذه الفسحة المفتوحة على مداها والمقسمة أجزاء عدة المتنفس المحوري في حياة أبناء المدينة والقرى المجاورة لها.

وطرابلس هي عاصمة محافظة الشمال وثاني أكبر مدن لبنان بعد العاصمة اللبنانية بيروت، وتقع على بعد 85 كيلومترا إلى الشمال من بيروت كما تبعد عن الحدود السورية نحو 40 كيلومترا.

ويقال إن الهدف من بناء الفسحة كان في البداية لتحويلها صرحا بلديا ولكن إثر مشكلة بين القيمين عليها تم تحويلها إلى مقهى.

وتسمية المقهى التاريخي تعود إلى وجوده على تلة تشرف على مدينة طرابلس وساحة منطقة التل تحديدا بازدحامها وشعبيتها ومحالها التجارية والعشرات من العربات المنتشرة في أزقتها عارضة المنتجات المحلية المتنوعة والجذابة في تغليفها الخارجي. كما تشرف الفسحة على بلدية طرابلس.

ويتميز المقهى بكونه يضم قاعة سينما صيفية في الهواء الطلق وكانت الأفلام تعرض في ساعات المساء الأولى ويتابعها الرواد وهم يتناولون وجبة العشاء ويدخنون النراجيل التي تم إعدادها وفق ما جرت عليه العادة والأعراف؛ وذلك بواسطة التنبك الأصلي الملقب بالأصفهاني، ويحتسون “الكازوزة البيضاء” والزهورات بمختلف أنواعها.

ولئن كانت البدايات مع الأفلام الصامتة فإن السينما في هذا المقهى التاريخي واكبت التطور وباتت تعرض الأفلام الناطقة التي شارك فيها نجوم كبار أمثال إسماعيل ياسين وليلى مراد وفريد الأطرش.

وفي ستينات القرن الماضي اقتحمت الأفلام الهندية المقهى وصار لها عشاقها الذين ينتظرون بشغف أسلوبها العاطفي المفرط في سرد القصص.

كما تميز المقهى بعرائش العنب وأشجارها المعمرة وبكونه المساحة الخضراء الشاسعة وسط المباني المتراصّة.

ومازال “مقهى التل العليا” حتى الساعة الأكثر شعبية من بين مقاهي المدينة ويضم مختلف شرائح المجتمع الذين يقصدونه بحثا عن راحة البال والقليل من الهدوء على الرغم من كونه يبعد مسافة قصيرة -لا تتطلب إلا دقائق قليلة- عن زحام المدينة “الطرابلسية” ويتم الوصول إليه عبر أكثر من مدخل ومن مختلف أرجاء طرابلس.

وبمرور الوقت تطور المقهى ليصبح مطعما في الوقت عينه مقدما المأكولات اللبنانية عموما و”الطرابلسية” الشعبية خصوصا باعتبار أن “ابن البلد” (الطرابلسي يطلق على مدينته تسمية البلد) يستسيغ الجلسات الطويلة في المقهى ويمكن أن تستمر الجلسة الواحدة ثلاث ساعات.

وكان تلاميذ المدارس وطلبة الجامعات يقصدون “مقهى التل العليا” بحثا عن الهدوء ليتمكنوا من إنهاء دروسهم أو للتحضير لامتحاناتهم. وكانوا يتجمعون في غرفة كبيرة، تحولت اليوم إلى مصلى، ويمضون ساعات طويلة بين جدرانها.

وكان أهل الشمال عموما وأهل طرابلس خصوصا يعلمون أنهم لدى زيارتهم المقهى سيجلسون جنبا إلى جنب مع كبار الشخصيات السياسية والثقافية والدينية والفنية إذ كانت الفسحة ولا تزال ملتقى لكل مثقف يحلو له الجلوس ساعات طويلة محاطا بالأشجار والخُضْرَة.

وكان المقهى شاهدا على العديد من الثورات التي ولدت في فسحته كما كان أبناء المجتمع المدني يخططون لمظاهراتهم وهم يدخنون النرجيلة أو يحتسون الزهــورات.

وفي مطلع عام 1940 كان المقهى حكرا على الرجال ولكنه اليوم يضم عدة أجزاء بعضها مخصص للنساء والبعض الآخر للرجال، وهناك جناح خاص بالعائلات وفسحة كبيرة مخصصة لألعاب الأولاد.

وفي حين أن بعض الأجزاء مفتوحة تناسب الطقس الجميل يضم المقهى أيضا بعض الغرف المغلقة كي يستمتع الرواد بالجلسة خلال نزول المطر.

وورث محمود سعدالله عابدين الملقب بـ”أبوسعد” وشقيقه هذا المقهى التاريخي عام 1975 عن والدهما الذي كان يملكه منذ عام 1939.

وترعرع أبوسعد في الفسحة المنبسطة والرحبة، وتعرّف إلى المجتمع الطرابلسي بكامله في هذه الفسحة، كما اكتسب مهاراته في التواصل مع الآخرين وهو يراقب أسلوب والده السلس في التعامل مع الكبار والصغار.

وأصر أبوسعد على الحفاظ على الهندسة الأصلية للمقهى لكي يشعر “ابن البلد” بأن التاريخ لم يرحل مستأذنا من هنا بل حافظ على طيفه ووقاره وذكرياته القادمة من مكان ما في حناياه.

ومع حلول ساعات الصباح الأولى يجتمع الرواد على الطاولات المنتشرة في كل الزوايا ليلعبوا الورق أو ليتقاسموا لعبة “الدومينو” أو ليستمتعوا بلعبة “الطاولة – النرد”.

والملفت في المقهى أن العشرات من الطلاب الصغار الذين كانوا في الماضي يرتادون المكان للدراسة أو لمرافقة العائلة كبروا اليوم وصاروا أجدادا ومازالت الفسحة هي ملتقاهم المحوري واليومي.

فعلى سبيل المثال المهندس عبدالله المصري يرتاد المقهى منذ 50 سنة وترعرع فيها مع مدير المدرسة محمد الزعبي والمراقب في وزارة المالية مصطفى العلي وأستاذ المدرسة مصطفى شطح. واليوم مازالوا يلتقون حول “لعبة الورق” يوميا ولأكثر من ساعتين.

وشهدت الفسحة بحسب ما يؤكد الجميع “أيام عزها في ستينات وسبعينات القرن الماضي”.

أستاذ الأدب الفرنسي المتقاعد أحمد شعبو يرتاد المقهى منذ نحو 45 سنة ويقول “هذا المكان هو النادي المحوري لكل متقاعد. هنا الملاذ الآمن وسط بيئة تراثية.

هو جزء من حياتي. نجد فيه كل الطوائف الدينية. خلال شهر رمضان المبارك تتواصل الاحتفالية اليومية حتى ساعات الفجر الأولى”.

ويعلق رفيقه على الطاولة ضاحكا “هذه الفسحة هي المصيف الجميل لكل فقير”.

في هذه الزاوية من المقهى تجلس سيدات عدة ينتمين إلى عائلة واحدة، يزرن المقهى أسبوعيا بحثا عن الهدوء وراحة البال. الجلسة الواحدة تستمر ساعات طويلة قبل العودة إلى الشواغل اليومية ومباشرة المسؤوليات.

غازي المير قد يكون الزائر الأقدم للمقهى حيث كان يرتاده منذ 65 عاما. ويقول “عندما أغيب عن المقهى لسبب أو لآخر أشعر بالغربة والرواد يقلقون علي. اعتادوا رؤيتي باستمرار. زوجتي تدخن النرجيلة في الفسحة المخصصة للنساء وأنا ألعب الورق مع الشباب”.

ولا يزال المقهى محافظاً على شكله تقريبا مع تغييرات بسيطة، حيث تحيط بجدرانه أشجار الليمون وعرائش العنب والأزهار، وفي وسطه بركة مياه، وعلى أطرافه تنتشر الطاولات والكراسي البلاستيكية الملونة.

أما الكشك الخشبي المسقوف بالقرميد الأحمر، الذي ضم حلقات نقاش سياسية وثقافية في الماضي، فقد تحول إلى مصلى، بعد أن كان بمثابة محطة ثقافية-سياسية،

يتشكل فيها الوعي السياسي والحقوقي لجميع الطلاب في المدينة اللبنانية ومثقفيها في بداية الستينات من القرن الماضي، من خلال الندوات والمحاضرات والنقاشات المفتوحة التي كان يشهدها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!