هجوم افتراضي على البطريرك قلوب مليانة وأكثر
لم يكد حبر بيانات “التيار الوطني الحر” ضدّ “القوات اللبنانية”، التي استُخدِمت فيها الأسلحة الثقيلة، وراجمات الصواريخ، يجفّ، على وقع الردود والردود المضادة، التي بدت بلا طعم ولا لون، حتى اندلعت “حرب افتراضيّة” من نوع آخر، شُرّعت معها الأسلحة “المحرَّمة”، واستهدفت رأس الكنيسة المارونية، البطريرك بشارة الراعي بصورة شخصيّة.
أما السبب، فكان عِظة البطريرك الراعي، التي رفع فيها الصوت، استكمالاً للصرخة التي يطلقها منذ أسابيع طويلة، ولا سيّما بعد فشل مبادرته للتقريب بين رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة المكلَّف سعد الحريري، في ضوء “امتعاض” أنصار الأول بسبب عدم اصطفاف “سيّد الصرح” إلى جانبهم، كما كانوا يمنّون النفس، لصالح “حياد” أراده نهج حياة.
ولعلّ ما أثار “حفيظة” فريق “العهد” كان استحضار البطريرك الماروني لمسألة التدقيق الجنائيّ، الذي حوّله “التيار الوطني الحر” إلى حصان طروادة، وتحصّن خلفه لتحوير أزمة تأليف الحكومة، وبالتالي تضييع البوصلة، وحرف النقاش عن مساره البديهيّ والمنطقيّ، فإذا بـ”سيّد الصرح” يقلب الأولويّات، واضعًا الحكومة في الصدارة، قبل أيّ تفصيل آخر.
“توضيح” رسمي.. و”انفعال” افتراضيّ
في عظته الأخيرة، قال البطريرك الراعي كلامًا واضحًا. دعا الساسة إلى “الخجل” من المجتمعين العربي والدولي، وإلى إراحة ضمائرهم، من خلال تأليف الحكومة. عرّج على موضوع التدقيق الجنائي، ليرى أنّ عبرته “بشموليّته المتوازية لا بانتقائيته المقصودة”،
قبل أن يخلص إلى أنّ “لا تدقيق جنائيًا قبل تأليف حكومة”، رافضًا ما وصفه بـ”اختلاق الأعراف والاجتهادات والصلاحيات والشروط”.
فهم “العونيّون” كلام البطريرك الماروني على أنّه “نقد مبطن” لهم، عزّزته تغريدة “غير بريئة” لرئيس الجمهورية قال فيها إنّ “الفاسدين يخشون التدقيق الجنائي، أما الأبرياء فيفرحون به”،
رغم أنّ أوساط الرئيس حرصت على نفي أن يكون البطريرك “مقصودًا” بهذا الكلام، باعتبار أنّ الاختلاف معه على بعض التفاصيل لا يفسد في الودّ قضية، وأنّ الاحترام لشخصه ومقامه يغلب على سائر الاعتبارات، مهما كبُر أو صغُر حجمها.
لكنّ “توضيح” المصادر لم ينعكس “افتراضيًا” على “انفعال” الجيوش “العونيّة” التي “انقضّت”، بكامل عدّتها وعديدها، بايعاز مباشر من قيادتها، على البطريرك الماروني، الذي وُضِع في “قفص الاتهام”، فاتُهِم تارةً بـ”حماية” الفاسدين، وقيل إنّه “يشوّش” على التدقيق الجنائي لأنّ من شأنه أن “يدين” البعض من المحسوبين عليه،
وذهب البعض أبعد من كلّ ذلك، ليعتبر البطريرك “منحازًا”، في تكرار لـ”معارك” لا طائل منها جرّب لبنان “ويلاتها” سابقًا.
البطريرك لن يردّ!
في مقابل الهجوم “العونيّ” الافتراضيّ، الذي بات يعكس إلى حدّ بعيد العلاقة “الملتبسة” بين رئيس الجمهورية والبطريرك الماروني، والتي لم ينجح اللقاء الأخير الذي جمعهما عشيّة عيد الفصح، في إزالة “الغشاوة” من حولها، و”ترطيب” الأجواء على خطّها،
كان لافتًا أنّ الراعي لاذ بالصمت، فانكفأ عن الكلام المُباح، متجاهلاً الأصوات المعترضة التي حاصرته، ربما لأنّها بقيت “افتراضية” من دون وجه رسميّ “يتبنّاها”.
يقول المقرّبون من البطريرك الراعي إنّ الأخير ليس “في وارد” الردّ على الهجوم الذي تعرّض له، ولو أنّه تجاوز الأصول والآداب، وخرج عن اللياقات في الكثير من جوانبه،
علمًا أنّه لا يعتبر أنّ ما حصل يشكّل “إساءة فهم” للكلام الذي صدر عنه، بقدر ما ينطوي على “تحريف” له عن سابق تصوّر وتصميم، لغايات لم تعد خافية على أحد، وتتقاطع عند مبدأ “تغطية الفشل”، وربما إلهاء الرأي العام ببعض السجالات التي لا تغني ولا تسمن من جوع.
ويشير هؤلاء إلى أنّ كلام البطريرك الماروني جاء في سياق كلّ مواقفه وعظاته في الآونة الأخيرة، التي يرفع فيها السقف إلى الحدّ الأعلى المُتاح، لأنّ ما يحصل بات أقرب إلى “الجريمة” التي لم يعد من الجائز “التطبيع” معها، أو التعامل معها وكأنّها غير موجودة.
ويشدّدون على أنّه لم يقل إنّه ضدّ التدقيق الجنائي، ولكنّه قال ببساطة إن “لا تدقيق جنائي من دون حكومة”، لأنّ الحكومة هي المعنيّة بوضع هذا التدقيق حيّز التنفيذ، لا سيّما وأنّه واحدٌ من الإصلاحات الموعودة، والمعلَّقة ريثما تتألف هذه الحكومة.
ليست المرّة الأولى التي يقع فيها “الخلاف” بشكل علنيّ أو مستتر بين “العهد” والبطريرك الماروني. فأنصار الأول يريدون أن يكون الراعي، “في صفّ” رئيس الجمهورية حصرًا، انطلاقًا من الاعتبارات المذهبية، فيما يصرّ البطريرك على الاحتكام إلى ما يصفها بـ”الأجندة الوطنية” التي تتجاوز موقع رئاسة الجمهورية بحدّ ذاته. وبين هذا وذاك، يبقى السؤال الأكبر، أين الحكومة من كلّ ذلك؟ وألم يحن وقت تشكيلها؟!