لهذا السبب تهاجر العائلات بقوارب الموت
كتب مايز عبيد في “نداء الوطن” عندما ترى أحوال الناس في مدينة طرابلس وأوضاعهم المعيشية والإنسانية الصعبة، وعندما تطّلع على حجم الفقر والإهمال الذي يعيشه مئات بل آلاف العائلات، وبالأخص في مناطق القبة والتبانة ومحرّم والأسواق الداخلية والميناء لن تستغرب لماذا يقرر هؤلاء الهجرة غير الشرعية وغير الآمنة عبر البحر.
لم يعد أمام الكثيرين من أبناء طرابلس الكثير من الأمل. فلقد ضاقت الخيارات جميعها في بلد أصبحت المعيشة فيه ناراً تكوي، ولا مال ولا أعمال متوفرة. وبالنسبة إلى الكثيرين، لبنان لم يعد بلداً صالحاً للعيش ولا أمل فيه بالتغيير، والهجرة إلى أوروبا عبر البحر هي بمثابة “آخر الدواء الكيّ”. ذلك لأن باب الهجرة الشرعية غير متاح، ولأنّ الكثيرين ممن تقدّموا بطلبات هجرة من الشباب والعائلات الطرابلسية، لم تُقبل طلباتهم. في قارب الموت الأخير الذي انطلق من المنية وكان على متنه 33 شخصاً وتوفي فيه طفلان، كان هناك أشخاص عدة من منطقة القبة في طرابلس. في القبة أيضاً يقع حي “نزلة الزحول”؛ والطفلان المتوفيان هما من هذا الحي مع عائلتيهما، وعدد آخر من الأشخاص كانوا على متن القارب المشؤوم ذاك. “نزلة الزحول” في منطقة القبة من الأحياء الأكثر فقراً وصورة مصغّرة عن منطقة القبة وعن مناطق الفقر والتهميش. أبنية قديمة ومساكن ضيقة، تتكدّس فيها العائلات التي اكتسحها الفقر، وجعلت البطالة من رجالها وشبابها أشخاصاً عاطلين عن كل شيء حتى عن الحياة.
قصدت “نداء الوطن” منطقة القبة وتحديداً حي “نزلة الزحول”. وفي الحي هذا كما في القبة عموماً، ثمة عائلات في الحي تعيش على 300 ألف ليرة لبنانية تأتيهم من أقرباء مغتربين كل 6 أشهر مرة، ومن هؤلاء المغتربين من توقّف عن إرسال الدعم منذ ارتفاع سعر صرف الدولار. عائلة محمد البحر إسماعيل الملقب بـ”بحرو” هي من عائلات الحي الفقيرة التي لا معيل لها في الداخل أو في الخارج. يقول بحرو لـ”نداء الوطن”: “أنا من سكان القبة عمري 60 سنة ولا أعمل منذ سنوات عدة. لدي أولاد ولا أحد يعمل منهم. أوضاع القبة وأهلها كلها فقر وتعتير. نعيش حالة فقر غير طبيعية وكأننا في غابة و”ما حدا لحدا”. كنت أعمل في الموبيليا وكان لدي محل في الزاهرية وكان أخي يعمل معي أيضاً. مع تراجع أوضاع المهن والأسواق في طرابلس بسبب ما تمر به المدينة من أحداث وضيق، توقّف عملي بالكامل وأقفلت المحل. عندي ولد اسمه عبدالله (25 سنة) كان يعمل لدى حلويات الحلاب في طرابلس وكان يعيلنا، ومع أزمة كورونا والإقفال الذي حصل سرّحوه من العمل ولم يحصل حتى اليوم على تعويضاته”.
يضيف: “أنا أول واحد بهجّ إذا سمحولي.. الفقر والعوز هما ما يدفع بنا كطرابلسيين لركوب القوارب والمجازفة بها، لأن حياتنا في لبنان صارت جحيماً لا يطاق”. أما شقيق “بحرو” ويدعى محمود إسماعيل فيقول: “كنت أعمل حفار موبيليا وتوقف عملي مع أخي منذ فترة. عندي عائلة والآن أنا بلا عمل. أحاول أن أدبّر أموري كل يوم 5 آلاف ليرة أو 10 آلاف لتأمين ما يمكن تأمينه بها من حاجياتنا”. وأوضاع بحرو وشقيقه وعائلتيهما هي عيّنة مصغّرة عن أوضاع الكثير من عائلات القبة وطرابلس. يشدد الأهالي هنا على أن لا مساعدات تأتيهم من أي جهة كانت. ولدى سؤالنا لهم عن مساعدات صندوق الزكاة في طرابلس أو غيره من الجهات يقولون: “كلها سياسية ونحن بعيدون عن السياسة، ما حدا بيعرف طريقنا”.