رمزي نهرا “زلمة باسيل”.. محافظ مزرعة الفساد
قد يكون الحديث عن فساد محافظ الشمال القاضي رمزي نهرا ليس جديدًا، لأنّ جذوره تتأصل منذ توليه منصبه في بداية العام 2015. هذا المحافظ، المدعوم من التيار الوطني الحرّ، ويحظى بغطاءٍ واسعٍ وقويّ من رئيس التيار، الوزير جبران باسيل، لم يترك للثقة مجالًا بينه وبين معظم أهالي الشمال. وفي كلّ مرّة، تتوالى فصول فساده وتجاوزه الحدود القانونية، وحتّى الأخلاقية، وهو يتعاطى باستعلاءٍ كبيرٍ مع الآخرين، ربما تيمنًا بثقافة من يدعمه ويغطيه!
“لبناني أصيل”
بعد انطلاق الانتفاضة الشعبية في لبنان، في 17 تشرين الأول، وبدل أن يكون نهرا بموقع المسؤول والمحايد لحساسية منصبه، ينضم بكلّ بساطة للمشاركة (!) بتظاهرة داعمة للوزير باسيل في قضاء البترون، ويلتقط صورة سيلفي بزهو وضحكة عريضة مع أحد المتظاهرين يحمل يافطة كتب عليها: “ما فيك تكون لبناني أصيل وتكون ضدّ باسيل”. وعلى غرابة هذه الصورة من محافظ “مسؤول”، لكن من يعرف عمق العلاقة التي تربط نهرا بباسيل، يُدرك أنّ تباهي المحافظ لإلتقاط صورة مع هكذا تعبير شعبوي و”استفزازي” بمنطق التمايز الذي ينتهجه التيار الباسيلي، هو سياق طبيعي لما يربط الرجلين.
لذا، ليس من العجب أن ينحدر نهرا من رتبة “محافظ” ويحمل لقب “زلمة”، وهو يأخذ بين أبناء الشمال صيت: “هيدا زلمة باسيل”.
بعد انتشار هذه الصورة التي أثارت موجة غضبٍ شعبية عارمة ضدّ المحافظ، أصدرت وزيرة الداخلية في حكومة تصريف الأعمال كتابًا تأديبيًا بحقّه. ومع ذلك، لم يرتدع، كما جرت عادته. يوم السبت الفائت، نُقل عن نهرا أنّه خلال دردشة مع موظفين في المحافظة قال عن المنتفضين في الشارع الآتي: “إن ما يسمّى بالثوار ما بغبّروا على صباطي”. ورغم أنّ هذا التعبير جاء منقولًا، لكنّ نهرا لم يخرج لنفيه، بعد توالي الغضب الشعبي الذي نتج عنه، وقد انتشرت على صفحات التواصل الاجتماعي مطالبات بإسقاطه من منصبه في الشارع، بحجة عدم احترامه المتظاهرين، وأُطلقت عليه أشنع الألفاظ مثل: “الفاسد رمزي نهرا”، “حرامي، فاسد، قمرجي، سراق”، وانطلقت مطالبات بمحاسبته واتهامه بامتلاك ثروة مالية ضخمة حصل عليها بطرق غير مشروعة.
“جباة ضرائب”
حكايا فساد المحافظ نهرا، وتجاوزاته القانونية والأخلاقية متعددة، بعضها أخذ ضجّة كبيرة. في أيلول من العام 2017، تهجم نهرا في مكتبه على مدير الوكالة الوطنية للإعلام في طرابلس، الصحافي عبد الكريم فيّاض، محاولاً ضربه بهراوةٍ مجهزة بمسامير حديدية، ومهدداً إيّاه بالقتل. وفي تشرين الأول 2018، نشرت “المدن” تحقيقًا موسعًا عن عمليات ابتزازه لرئيسي بلدية طرابلس والميناء بملفات فساد كبيرة. وفي شباط 2018، أصدر النائب العام المالي القاضي علي ابراهيم، قرارًا بملاحقة رئيس بلدية الميناء عبد القادر علم الدين، بناءً على شكوى تقدّم بها أعضاء من بلديته. وحتّى الآن، يمتنع نهرا عن تبليغه بالملاحقة، استكمالًا لنمط ابتزازه المعهود، وهي يضع التبليغات والملفات في درجه على قاعدة: “مرقلي لمرقلك وغطيلي لغطيلك”!
كلّ هذا، ناهيك عن تداول أخبارٍ تحكي عن تواطؤ نهرا منذ سنوات مع بعض أصحاب مولدات الكهرباء في الشمال، الذين يعملون بطريقةٍ غير شرعية، وأخذه “الخوات” منهم، وأنّ لديه بعض “المستشارين” والمنتفعين من “جُباة الضرائب” له شخصيًا. لكن، ثمّة قضايا أخرى تخفي تجاوزات قانونية هائلة يرتكبها المحافظ نهرا، وتتعرض لتعتيم إعلامي حولها، نظرًا للنفوذ الذي يحظى به من “الوزير الملك” لـ”العهد القوي”.
كفريا ضحية نهرا
في قضاء زغرتا، وقعت بلدة كفريا ضحية المحافظ نهرا، على مدار 9 أشهرٍ من هذا العام، قبل أن تضع وزيرة الداخلية حدًّا لتماديه المجحف في تجاوز القانون. يحكي سركيس بوعبد الله لـ”المدن”، حكاية 9 أشهرٍ من المعاناة مع فساد المحافظ. سركيس هو أبرز الناشطين في البلدة، وكان أول المتصدّين لنهرا، و”المقاتلين في سبيل قضية محقة”، على حدّ وصفه، والقصّة هي الآتي:
قبل نحو أربع سنوات، قامت شركة “ولكو”، المملوكة من الشقيقين بطرس وطوني عيسى مع والديهما ويليام، بشراء أرضٍ عقارية في كفريا تبلغ مساحتها نحو 54 ألف متر مربع، وجرى الاتفاق مع مختار الضيعة حينها، يوسف بوعبدالله، أن تُخصص الأرض لإنشاء مزارع دواجن.
غير أنّ إنشاء مزارع في هذه الأرض في كفريا، لم يكن مستوفياً الشروط القانونية، لجهة البُعد عن السكن وعن وسط البلدة وعن نبع وعين مياه الشفة، والذي يجب أن لا يقلّ عن 1000 متر بحسب قرار مجلس الأعلى للتنظيم المدني، رقم 3 تاريخ 24 / 2 / 1996، فيما أقرب منزل من هذه الأرض يبعد حوالى 50 متر ووسط الضيعة 350 متر. ومع ذلك، أعطى المحافظ نهرا للشركة بداية العام 2019، رخصة فئة أولى، وهي لا تستوفي الشروط اللازمة، وكان من المستحيل أن يجد لها مخرجًا قانونيًا، وقد فعلها غير آبهٍ بالقانون نفسه.
لا وزارة صحة ولا داخلية
خطوة المحافظ، أثارت حينها غضبًا كبيرًا لدى أهالي بلدة كفريا، ورفضوا رفضًا قاطعًا إنشاء هذه المزارع، التي ستضم وفق الشركة نحو مليون طير، وهي قريبة من بيوتهم. قدّمت مجموعة باسم أهالي البلدة اعتراضًا لدى المحافظ، لكنّه أدار لهم ظهره ولم يستقبلهم حتّى، فيما كانت الشركة قد بدأت بأعمال الحفر. وبعد أن كاد أهالي كفريا يفقدون الأمل، توجهوا إلى وزارة الصحة، وقدموا كتاب اعتراضٍ لها، فأعطاها الوزير جميل جبق اهتمامًا بالغًا. ونتيجة التشكيك بالرخصة التي أعطاها المحافظ للشركة، أرسل جبق فريقًا من المصلحة الصحية في زغرتا في شهر آذار 2019، من أجل الكشف على الأرض، فأعطت المصلحة تقريرًا يؤكد عدم قانونية عمل نهرا بإعطائه رخصة غير مستوفية للشروط. ثم عادت وزارة الصحة للتأكيد على التقرير، وأرسلت مصلحة الصحة من طرابلس، فجاء التقرير مطابقًا لخطورة إنشاء مزارع للدواجن في الضيعة. وللمرة الثالثة في شهر أيار الفائت، أرسلت وزارة الصحة لجنة فنية مؤلفة من مهندسين وأطباء إلى كفريا، فجاء قرار اللجنة موافقًا لجهة عدم استيفاء الأرض الشروط القانونية والصحية، وأظهرت دراسة اللجنة أنّ إنشاء هذه المزارع يشكل خطرًا كبيرًا على المياه الجوفية في كلّ مناطق الشمال.
تدمير آثار
ورغم كلّ تقارير وزارة الصحة الصادرة بعد شهر أيار، استمرت الشركة بأعمال الحفر في الأرض، وهي تتلقى دعمًا مطلقًا من المحافظ الذي كان يؤمن الحماية لها.
هذه الأرض التي نوت شركة “ولكو” إنشاء مزارعها فيها، تقع ضمن نطاق منطقة أثرية. وأثناء أعمال الحفر، في شهر حزيران 2019، ظهر مع الشركة حجر كبير يتجاوز عمره 1500 عام، فاتهم أهالي البلدة الشركة بسرقته، قبل أن يتواصلوا مع المديرية العامة للآثار، وقد أٌجبروا على إعادته، ثمّ أرسلت المديرية فريقًا تابعًا لها من أجل الكشف على المكان. قام الفريق الفنيّ التابع للمديرية بمسحٍ للأرض، فأرسل بلاغًا فوريًا للقاضي ابراهيم من أجل وقف أعمال الحفر في المشروع، ولو مؤقتًا، بعد أن كانت الشركة (المدعومة من نهرا) قد ألحقت في أعمالها دمارًا كبيرًا بالمواقع الأثرية المحيطة بالأرض.
في 26 آب 2019، أرسل وزير الصحة جميل جبق، كتابًا إلى المحافظ نهرا يحمل عنوان: “طلب الامتناع عن إعطاء شركة “ولكو لترخيص إنشاء مزرعة دواجن”، بناءً على شكوى مقدمة ضدّ عمل الشركة. ومع ذلك، امتنع نهرا عن تبليغ الشركة بوقف مشروعها! عندها، تقدّم سركيس باسمه الشخصي بشكوى ضدّ المحافظ، لدى القصر الجمهوري والتفتيش المركزي ووزارتي الداخلية والصحة، وجميعهم لم يستطيعوا أن يُلزموا المحافظ نهرا تنفيذ القانون وإبلاغ الشركة بالقرار الرسمي في وقف أعمالها!
عادت وزارة الصحة وأرسلت كتابًا للداخلية من أجل إلزام المحافظ نهرا تنفيذ القرار. وفي 14 تشرين الأول 2019، أرسلت الحسن كتابًا لنهرا من أجل إلزامه تنفيذ القرار، وبقي في درجه إلى 20 تشرين الأول، حتّى قام عنوةً بتبليغ الشركة التي كانت تشتكي من خسارتها المالية الضخمة نتيجة وقف عملها في مشروع مزارع الدواجن.
عينة من الفساد
عمليًا، هذه عينة من المآسي التي يعيشها كثير من أهالي بلدات وقرى الشمال مع المحافظ نهرا، وقد استغرقت هذه القضية وحدها 9 أشهر، مع ضغوطٍ هائلة، حتّى يُقدم المحافظ فقط على تبليغ الشركة من أجل وقف عملها غير القانوني. وبينما توجهت أصابع الاتهام للمحافظ نهرا بتقاضي “رشوة” مالية من شركة “ولكو” مقابل تغطيتها ودعمها، وهي الاتهامات نفسها التي تُساق ضدّه في مختلف ملفات الفساد والقضايا العالقة، تبقى الأسئلة التي لم نلقَ لها جوابًا، لأنّ المحافظ نهرا لم يردّ على اتصالات “المدن”: لماذا أعطى نهرا في حينها “رخصة فئة أولى” على مشروع غير مستوفٍ للشروط القانونية؟ ولماذا كان يدافع بشراسة عن شركة “ولكو” وكان يمتنع عن إبلاغها قرار وزارة الصحة، وبقي في درجه نحو شهرين كما يفعل بمعظم الملفات التي يخضعها لمنطق الابتزاز نفسه؟
والسؤال أيضًا: هل بدأت تنطلق في الشمال بوادر حملة المطالبة بـ”إسقاط المحافظ رمزي نهرا”؟ وهل يقبل باسيل برفع الغطاء عنه؟
جنى الدهيبي | الإثنين 11/11/2019