كفى إساءة الى #طرابلس!…
كثيرة هي الظواهر التي مرّت على طرابلس مدينة العلم والعلماء وعاصمة لبنان الثانية وحاضنة التنوع والانفتاح على كل أبناء الوطن، من محاولات تجييرها سياسيا، والسعي الى قوقعتها طائفيا ومذهبيا، وإلباسها قناعا ليس لها من التطرف والتشدد والغلو، الى إستخدامها في مشاريع مشبوهة، وتحويلها الى صندوق بريد ناري وأمني، أو حديقة خلفية لأزمات المنطقة.
كل هذه الظواهر إندثرت، بعدما نفذت أجندات محلية أو خارجية، وهي وإن تركت ندوبا على الجسد الطرابلسي، إلا أن المدينة كانت في كل مرة تنجح في معالجتها وفي تجاوز تداعياتها وآثارها السلبية، لتعود الوعاء الجامع، وما ثورة 17 تشرين الأول وتألق طرابلس التي فتحت ذراعيها لكل اللبنانيين الذين ملأوا ساحتها، حتى إستحقت لقب “عروس الثورة”، سوى أكبر دليل على أن ما تختزنه طرابلس من قوة وعزم وإصرار وإرادة لا يضاهيها فيه أي من المدن اللبنانية الأخرى.
ليس خافيا على أحد أن بطريرك لبنان إلياس الحويك أصرّ على ضم طرابلس الى دولة لبنان الكبير بدلا من وادي النصاري في سوريا، بالرغم إيجابيات ذلك ديموغرافيا بالنسبة له، ولدى سؤاله عن إصراره، قال: “إن في طرابلس مرفأ قد ينافس ويتقدم على مرفأ بيروت في حال لم نضمها الى لبنان”.
من هنا يبدو واضحا أن الخوف من طرابلس بدأ قبل مئة سنة، حيث بدأت الحرب عليها سياسيا وإقتصاديا وماليا وأمنيا لارهاقها وإنتزاع دورها التجاري والسياحي والثقافي، وقد ترافق ذلك مع حرمان رسمي لم تتعرض له أي من المدن أو المناطق اللبنانية،
فكانت مشاريعها وعودا، وإنماؤها وعودا، وإنصافها وعودا، قد برع في إطلاق كل هذه الوعود تيار سياسي إستخدمها في الانتخابات مرات عدة، وشاح بنظره عنها عندما كان في السلطة وحرمها من الانماء والاعمار، وحاربها بقسوة عندما تسلمت سدة السلطة، ما حوّل الفيحاء من مدينة رفاه فيها جيوب فقر، الى مدينة فقيرة فيها جيوب رفاه، ثم بعد ذلك الى مدينة الفقراء.
ليس الفقر عيبا، لكن العيب أن يُستخدم الفقر لتصفية الحسابات، والاساءة الى سمعة الناس، أو أن يتحول الى حسد طبقي لم تعتده طرابلس المتميزة بكرامتها وعنفوانها وشهامتها ومساعدتها للناس برغم حاجتها، فالمدينة فقيرة صحيح، لكنها لا تقف على أبواب أحد، وعائلاتها محتاجة لكنها تتحصن بالتعفف، وأبناؤها يرفضون إلا أن يأكلوا لقمتهم من عرق جبينهم، هكذا تعلموا وتربوا وورثوا أبا عن جد، وهم مستعدون لأن يربطوا على بطونهم حفاظا على كرامتهم ولكي لا يشعروا بـ ذل أو مهانة.
منذ فترة يسعى البعض الى المتاجرة بفقر طرابلس وبحاجة أبنائها، فالمدينة التي كانت أيقونة لبنان في ثورة 17 تشرين الأول، حولها بعض هؤلاء الى مركز لـ “الشحادة” على الهواء مباشرة في محطات التلفزة التي وجد بعضها في الأمر “ريتينغ” مرتفع فأخذ مراسلوها يستغلون حاجات الناس ونسج القصص عن مآسيهم وفقرهم من دون وازع من إحترام الخصوصيات التي من المفترض أن تبقى مصانة مهما بلغت الحاجات والمآسي، علما أن أغلبية من تنطحوا على تلك الشاشات هم من خارج طرابلس.
بعد أن تراجعت الثورة، وتركها أهلها، وتحكم فيها بعض المستفيدين الذين إمتهنوا عمليات الابتزاز، جاء زمن كورونا ليجد هؤلاء الفرصة متاحة فيه لتحقيق مزيد من الأرباح المالية، ما جعل كرامات الطرابلسيين عرضة للانتهاك، فكل من يطلب مساعدة من سياسي أو مسؤول أو ميسور ولا يحصل عليها ينظم مسيرة من شبان لا يتعدون أصابع اليدين الى مكتبه أو داره
ويتشدق بالتحدث باسم طرابلس ويكيل الاتهامات المختلفة، حتى بات البعض يتخذ من ذلك مهنة يستغل من خلالها فقر الناس ويفاوض على رؤوسهم ليحصل على المال، وإلا فإن مواقع التواصل الاجتماعي وبعض المحطات جاهزة للدجل والكذب والافتراء.
لا ينكر أحد أن الحاجات كثيرة بفعل الحرمان المزمن، لكن أيضا المساعدات كثيرة صحيا وطبيا وإنسانيا وإجتماعيا وماليا وهي تقدم من دون ضجيج أو إعلام، حفاظا على كرامات الناس وعنفوانها، وقد أظهرت الجولات التي قام بها الكشافة في المناطق الأكثر فقرا لتوزيع قسائم البلدية، أن هناك عائلات متعففة ومكتفية بمساعدات أهل الخير من قيادات المدينة وجمعياتها الذين لم يقصروا يوما مع أبناء مدينتهم التي ما يزال الخير قائم فيها وسيبقى الى ما شاء الله.
لقد بلغ السيل الزبى، جراء هذه الانتهاكات، فلم يترك المتاجرون بلقمة الفقير أحد من شر أعمالهم، فإما أن تبدأ المساعدات بهم وتنتهي بهم وما بين ذلك من إستفادة مالية، وإلا الويل والثبور وتمثيل الأفلام التي باتت مكشوفة للجميع.
طرابلس ضحية إهمال الدولة بالدرجة الأولى، وهي ربما تكون ضحية تقصير بعض قياداتها المطالبين بالضغط أكثر على الحكومة لتأمين حاجاتها ومساعدة أبنائها وتقديم الخدمات لهم،
وحساب هؤلاء لا يكون سوى بالانتخابات وليس بالافتراءات والاتهامات وإنتهاك الكرامات والابتزاز المالي، خصوصا أن إنتشار هذا السلوك وتعميمه يساهم في تحويل طرابلس الى ضحية جديدة لبعض الطفيليين الذين يتغذون على ظهور الفقراء والمساكين المتعففين المتمسكين بكراماتهم، في وقت طفح فيه الكيل من الاساءات المتكررة للفيحاء!..