في مخيم شاتيلا.. مطبخ للفقراء بلا تمييز
قبل 14 عاماً، قرر يحيى سرّيس ورفاقه في مخيم شاتيلا توزيع وجبات طعام الإفطار خلال شهر رمضان، على بعض الفقراء. توافد المتطوعون، وكانت التبرّعات أكثر من المتوقّع. قررت هذه المجموعة التي تمثّل تركيبة المخيم من فلسطينيين وسوريين ولبنانيين إنشاء مطبخ خيري في العام التالي. اليوم، يوزَّع الطعام على أكثر من 1200 محتاج في المخيم والجوار. حكاية المطبخ يرويها سرّيس لـ”المدن”، أو ما يُعرف بالمخيم بـ”عمّو أبو العبد”.
رجل أشيب على أعتاب الستين، يجلس على كرسي عاش أزماناً عدة. نلتقيه في رابطة قرية مجد الكروم، التي كان أهلها أول من سكن مخيم شاتيلا عند تأسيسه في العام 1949. يكاد لا يكمل جملة حتى يأتيه اتصال. الأول من أميركا: “عمّو أبو العبد أرسلت لك مبلغاً للمطعم”. إنه مغترب لم تطأ قدماه أرض لبنان والمخيم منذ أكثر من عقدين، وهو… رنّة هاتف أخرى تقطع الحديث، إنه مصنع للحلويات في جوار المخيم يتبرع بمئة دزدينة حلويات لأيتام يرعاهم المطبخ.
في العام 2004، دفعت أوضاع المخيم المأساوية عدداً من الشبان إلى البحث عن كيفية مساعدة بعض الفقراء أثناء شهر رمضان. ورغم أن الأغلبية كانت من الرابطة، إلا أنه كان من بينهم سوريون ولبنانيون من أهالي المخيم. في الأيام الأولى، كانت الحصيلة 40 وجبة طعام يومياً. ثم بدأت بالزيادة شيئاً فشيئاً. اتصالات من مغتربين غادروا المخيم منتصف الثمانينيات. محال لبنانية وفلسطينية خارج المخيم تتصل هي الأخرى للتبرّع. فاجأ هذا التفاعل القيّمين على المشروع، فاتخذوا قراراً بإنشاء مطبخ في العام التالي يمتدّ طيلة شهر رمضان.
إضافة إلى المتطوعين، يعمل في المطبخ اليوم أكثر من ثلاثين شخصاً، ما بين طبّاخين وموزعين ومشرفين، يؤمّن لهم هذا المشروع الخيري راتباً. يتقاسم الرجال والنساء عملهم في طابقين مخصصين للطبخ، وآخرين يتوزع في أرجائهما الضيوف الذين يستقبلهم المطبخ بشكل يومي، ويُقارب عددهم 100 ضيف. وصادف خلال زيارتنا استقبال أيتام من المخيم والجوار. وفي نهاية الإفطار حصل كل يتيم على مبلغ وكسوة عيد، وألعاب، إضافة إلى قسيمة من محل للحلويات.
هناك من بين العاملين سوريون ولبنانيون من أبناء المخيم. فياسين سوري يعمل منذ انطلاقة المشروع، وهو مشرف أساسي اليوم. أما مريم اللبنانية فتُوضّب الوجبات بكثير من الدقة، والعناية في الشكل النهائي للطعام. يعتبر سرّيس أن أي تمييز على أساس الانتماء الوطني أو الديني هو نسف لأي ادّعاء بأن الهدف هو الخير “وشعبنا الفلسطيني لم يمارس التمييز في تاريخه. فالسوري واللبناني والبنغلادشي وأي إنسان فقير له الحق في الحصول على الغذاء كما أي فلسطيني”.
تكريساً لهذا المبدأ، وجبات كثيرة تصل إلى الفقراء في الجوار، ضمن جداول يجري تنقيحها كل عام. وتُنصب خيمة في جوار المخيم، يقصدها فقراء الجوار ليحصلوا على حقهم في الطعام. وليحقق بذلك المشروع هدفاً آخر في تحسين العلاقة وتوطيدها ما أمكن بين المخيم وجواره. ليضاف إلى جملة من الأهداف الأخرى حققها المطبخ الخيري، من بينها إعادة الربط بين الفلسطينيين المهاجرين من المخيم والمقيمين فيه.
إذا كنت من زائري مطبخ رمضان، أو رابطة أهالي مجد الكروم خلال شهر الصوم، ربما تفاجئك مظاهر التبرع من سكان المخيم، الذين يتصفون بالفقر عموماً. فهذا عجوز يأتي بكيس رز، وتلك امرأة تجلب بعض المال فدية عن إفطارها، وثالثة تحمل قنينة زيت صغيرة لتعطيها للمطبخ. يبتسم “أبو العبد”، ويقول “كأي مشروع خيري نعيد اكتشاف الناس، وعمق الخير في نفوسهم، رغم فقر الحال”.
يبدأ تحضير الطعام من العاشرة صباحاً، بإشراف مختصين، يراقبون الطعام ونوعيته. كما يُلاحظ أن الوجبة متنوعة، تضم، إضافة إلى الطبق الرئيسي، العصائر، الحلويات، الخضروات والحساء. وخلال رمضان، يُوزِع المطبخ المواد العينية على فئة واسعة من فقراء المخيم. نسأل يحيى سرّيس: “إلى أين يمكن أن تصلوا بالمطبخ الخيري بعد كل هذا التوسّع؟”، فيجيب “المطبخ هو الذي يقودنا، وليس نحن من يقوده”، ويضحك.