في عيد الأضحى… لنفكِّر في هؤلاء المنسيين
عيد الأضحى في طرابلس شهد حركة أنشط من السابق، كما شهدت الأسواق مبيعات أفضل وإن كانت لا تزال لا تغني عن جوع في بلاد لم تهدأ الحروب فيها على مدى قرن، حيث لا يعود للمأساة هوية، أو انتماء، ولا تنحصر بموسم دون آخر.
في بلاد الحروب المتواصلة دون هوادة، من السهل أن يجد المرء الكثير من المظالم، والقليل من الراحة، وهنيئاً للمتواضعين، القابلين بحالتهم، كيفما كانت. هؤلاء لهم راحة البال، والطمأنينة.
عائشة المصري التي تعيش في مسكن صغير، تشرح لـ”النهار”عن حالها قائلة: “أعمل في البيوت، ولا مانع عندي من عمل أي شيء يليق بالمرأة، المهم السترة”، مضيفة: “أكتفي بما أدّخر، ولا أنتظر شيئاً من أحد، مع أن ما أدّخره يكاد لا يفي بتكاليف دواء الضغط الذي علي تناوله باستمرار”.
لعائشة كما روت، ابنان من زواجها الأول من شخص أردني، و”عندما تركني، أخذ الولدَين معه إلى الأردن، ثم توفي، ولم أعد أعرف عنهما شيئاً. ثم تزوجت ثانية من شخص يعيش في زغرتا، وما لبث أن توفي هو الآخر منذ ثلاث سنوات. ومنذ ذلك الحين، أعيش وحدي، وأحاول تدبّر أمري بما يتيسر”.
وبين ساحة الكورة وكرم القلّة، نواف خضر (مواليد 1985)، مشلول مقعد، يركن عربته إلى جانب الطريق. ينتظر المارة ليعطوه أي شيء، لكنه لا يطلب. وضعه صعب، ويائس، لا يريد التحدث إلا بصعوبة عن حاله. ويفيد أنه مشلول منذ ولادته مثله مثل شقيقه وشقيقته، فـ”والدنا محمد، ووالدتنا أبناء عم، وهو السبب في أننا جئنا مشلولين إلى هذه الدنيا”، قالها بلهجة غير واضحة.
يعيش نواف مع والدته، وأخوته في منزلهم في القبة، ولا معيل لهم بعد وفاة الوالد. يوضح: “أشعر برفّة قلب دائمة. حصلت على بطاقات الإعاقة مع أخوتي، لكنها تفيدنا بعض الشيء في العلاج والدواء، أما كيف نعيش، فلا أعرف، فوالدتي تتدبر الأمر”.
يعاني نواف من الخوف على المصير، ويتساءل: “إلى أين أنا راحل؟ ما هذه الحياة؟ ما هي آخرتها؟”، متمالكاً نفسه عن البكاء.
وفي ظلال الأشجار الوارفة لمدرسة راهبات عبرين، يتخذ عاجزٌ، متقدمٌّ في السن، مقعداً مكاناً لإقامته النهارية، يرفض ذكر اسمه، يستخدم عكازين للتنقل. المكان مقصود كثيراً، يشاهده الكثيرون، إلى جانبه قنينة ماء، ينتظر أي مساعدة، لكن من دون طلب. يتحدث بلغة ثقيلة غير مفهومة، ويقول إنه يقيم في منزل أصدقائه آل كرامي، فـ”أنا كنت معهم منذ زمن والدهم. لا أريد منهم شيئاً”، ويؤكد أن لا أخوة له، ولا أهل، ولا أحد يهتم به.
يصر على عدم ذكر اسمه، ثم يتمدد فوق عكازيه، وينام على الرصيف، تحت الظلال الوارفة لأشجار الزينة لمدرسة راهبات “عبرين”، أمام مرأى آلاف الناس الذين يقصدون الشارع.
وفي حي شعبي يقع بين شارع الراهبات في القبة، وسوق البازركان في الأسواق الداخلية، يسكن زاهر وجيه طيب، شاب أربعيني، يعيش مع زوجته وأبنائه الثلاثة، يعمل عادة في الزجاج والألمنيوم، يفيد “النهار” أنه متوقف حالياً عن العمل بسبب كساد السوق، ووضع اثنين من أبنائه اللذين لديهما إعاقات، ومشاكل صحية متنوعة.
وزاهر تزوج من ابنة عمه. وعما إذا كانت القرابة سبباً لإعاقة أبنائه، ينفي ذلك، مؤكداً أن “الفحوص المخبرية أثبتت أن حال ولديّ متكررة عند العديد من الأبناء الذين يصابون بهكذا حالات دون أن يكون أهلهم أقرباء حسب ما أفادني الأطباء الذين يعالجون أبنائي”.
البنت الكبرى رنيم (18 عاماً) تبدو وكأنها ابنة 12 عاماً لصغر حجمها والتشوّه الذي تعانيه، فهي ولدت مع تشوهات خلقية. وبحسب والدها “منها ثقب في القلب، وضيق في مجرى البول، وكلية أكبر حجماً من الأخرى. وقد أجريت لها عملية جراحية لتوسيع مجرى البول، وعملية قلب مفتوح. وبعد إجراء العملية الأخيرة لها، أصيبت بنوبات كهرباء، تتعرض لها بين حين وآخر، خصوصاً عند انقطاع الدواء. وضعها الصحي تسبّب لها بقصور في النمو، ولكن بعد متابعات عديدة، أصبحت أقل سوءاً”.
فواز الابن الأوسط يبدو في حال جيدة، لكن عماد في السادسة من عمره “لا يستطيع الحركة، ولا النطق، وهو مصاب بكهرباء في الرأس منذ عمر الستة أشهر كما قال لنا الأطباء، وهو يعاني من عدة مشاكل، ونقوم بمعالجتها في حينها، ومنها العلاج الفيزيائي لثلاث مرات في الأسبوع، وهو يتطلب عناية خاصة، ولذلك تركت عملي للاعتناء به، وملاحقة شؤونه، خصوصاً عندما يكون في حال صحية سيئة”.
عن معاناة ابنته رنيم، قال إنها “لا تتمكن من النطق، ولا تنمو، كثيرة الحركة، وقد تكون مؤذية في بعض الأحيان، ولذلك لا يمكن إدخالها إلى أي مدرسة، فهي تحتاج إلى رعاية دائمة ومباشرة. وحال عماد أصعب، ويعاني من شحنات كهربائية دائمة، ويحتاج إلى علاج دائم وطويل، والوعود بالتحسّن لا تعدو كونها كلاماً بكلام”.
أما الوالدة فتعاني من التوتر العصبي والإرهاق الدائم والتعب، وتقول: “لا يهمني ما يصيبني، بل ما يصيب أبنائي، وعليّ أن أكون بقربهم لمساعدتهم عند الطوارئ”.
يتحدث زاهر بثقة بالنفس شارحاً أنه قادر على العمل “لكن وضع أبنائه يمنعه، وهو يتمنى المساعدة في تأمين الدواء، والعلاجات، وأن تتأمن له وظيفة تعود بمردود مالي دائم كي لا ينقطع العلاج عن الأولاد”.
.