أطفال يستغيثون ما عم فينا ناكل
أتى الطفل أحمد بإطار سيارة، ورمى به على قارعة الطريق، وأشعله في محيط ساحة النور وحوله عدد من الأطفال لا تتجاوز أعمارهم مثله الـ 12 عاماً. ولدى إشعاله الإطار كان يردّد بصوت صارخ:”أنا وأهلي ما عاد فينا ناكل .. يلعن كل مسؤول بهالبلد”.
أحمد، وبحسب ما أشار إلينا، هو إبن منطقة القبة في طرابلس، أخ لخمسة أولاد من عائلة واحدة، كان أبوه يعمل في السابق في مؤسّسة طرابلسية، قبل أن تقفل أبوابها وتصرف موظّفيها ويهاجر صاحبها إلى أوروبا.
وإلى جانب أحمد عدد من الأطفال الصغار من سنّه وجيله. هؤلاء جميعاً تجمعهم اللهجة الطرابلسية والحرمان المشترك. أحضروا بعض الإطارات وتمركزوا على الرصيف الفاصل بين مسربي الطريق بين ساحة النور وسراي طرابلس، محاولين منع أي سيارة من العبور.
فبحسبهم “هذا يوم ثورة وغضب وقطع للطرقات، وممنوع بالتالي أي نوع من أنواع الحركة”. وصلت سيارة يقودها شخص آتية من باب الرمل وتحاول استلام طريق ساحة عبد الحميد كرامي (النور) وإكمال سيرها، لتجد أنّ أحمد ورفاقه الصغار قد قطعوا الطريق بالإطارات ومستوعبات النفايات.
طلب السائق منهم فتح الطريق فقابلوه بالرفض. حاول المرور عنوة عبر دهس الإطارات وإكمال سيره، فلم يفلح. أراد أن يستنجد بأحد عناصر الجيش اللبناني الذين كانوا متواجدين في محيط ساحة النور قائلاً له:”يا وطن منّك شايف هل كمّ ولد قاطعين الطريق؟.. بدنا نمرق”.
ردّ العسكري بالقول: “جرّب لفّ وروح من طريق تاني”. عندها، غضب أحمد ورفاقه وضربوا بأيديهم على مقدّمة السيارة طالبين من صاحبها الرجوع لأنّ الطريق لن تفتح مهما كان السبب، فعاد السائق أدراجه.
كم تشبه حالة الطفل أحمد حالات أخرى في عاصمة الشمال، هي مثالٌ صارخ عن حالات آلاف الأطفال والعائلات، في لبنان بشكل عام، وفي مدينة طرابلس بالتحديد. هؤلاء الأطفال ليس مكانهم الشارع،
لكن وبسبب الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية والمعيشية التي أوصلت السلطة البلد والشعب إليها، صار الشارع هو المكان الوحيد الذي يستطيع فيه هؤلاء ومن يشبههم الصراخ فيه، ورفع الصوت، والبوح بما يشعرون به من مآسٍ، في زمن لا يسمعهم فيه من كان من المفترض أن يسمعهم. الشارع اليوم هو الوحيد الذي يسمع صوت أحمد وعائلته وكل من شابههم ولكنّه ليس قادراً سوى أن يعود عليهم بالصوت أيضاً.
ففي مدينة طرابلس ومناطق شمالية أخرى، مئات بل آلاف الأطفال، منهم من صار الشارع مأواهم، وآخرون يسيرون في نفس الإتجاه، لا مؤسّسات تحمي، ولا فرص عمل تضمن للشباب مستقبلهم، في بلد تحيط به المآزق من كلّ جانب.
ولليوم الثاني على التوالي، تواصلت الإحتجاجات في طرابلس ومناطق شمالية أخرى، رفضاً للإرتفاع الجنوني لسعر صرف الدولار مقابل الليرة، واحتجاجاً على سياسة التجويع التي تمارسها الدولة بحقّ الشعب، عبر رفع أسعار السلع والمواد الغذائية والتموينية والمحروقات. وشهدت المدينة تصعيداً كبيراً على خلفية الأوضاع المعيشية المتردّية، حيث يسهم التحليق المستمرّ للدولار بتخريب المؤسّسات أو ما تبقّى منها، وبانعدام القدرة الشرائية للمواطنين بشكل كامل.
ولليوم الثاني على التوالي، استمرت طريق البالما التي تربط طرابلس ببيروت مقطوعة بالإتجاهين، كما قطعت أمس طريق طرابلس – ضهر العين، وطريق طرابلس – عكار وعدد من الطرقات الأخرى، الفرعية منها والعامة.
ونزل عدد من الشبّان إلى ساحة العبدة في عكّار، وعملوا على قطع الطريق هناك، وسط دعوات للمواطنين بالنزول إلى الشارع، وفي ظلّ استغراب عدم تجاوب كثيرين مع دعوات التظاهر والتصعيد، بعدما أطاح الدولار بكل شيء، وجعل الأكثرية الساحقة من اللبنانيين تحت خطّ الفقر.